في البداية، كان أبو ريناس (75 عام)، متحمساً للحديث عن حال عائلته النازحة قسراً من منطقة عفرين، شمال غربي سوريا، لكن ما أن شرع  بالكلام حتى غلبته الدموع، فتوقف يلتقط أنفاسه، تاركاً الأمر لزوجته، كي تسرد بقية القصة.

وتكاد قصة النازحين الايزيديَين، أبو ريناس وزوجته، تلّخص حال فئة كبار السن في تلك المنطقة؛ كإحدى الفئات الهشّة من مجتمع عفرين الكردي الذي طالته الانتهاكات بعد غزو فصائل المعارضة السورية والجيش التركي للمنطقة، ربيع العام 2018.

وأبو ريناس، الذي ينحدر من قرى ريف عفرين، قضى نحو 30 عاماً من عمره، كسائق شاحنة؛ تنقل خلالها بين مناطق سوريّة مختلفة ودول مجاورة، لكن ما أن تحسنت أحواله المادية، حتى استقر بقريته، وزوج فيها أبناؤه الستة أيضاً.

تقول أم ريناس(70 عام) في معرض حديثها عن آثار الغزو التركي للمنطقة:

“بات الـ 13من آذار/مارس 2018، تاريخاً يفصل بين مرحلتين من حياة عائلتنا، ذلك أننا نزحنا في هذا اليوم، تاركين وراءنا، شقاء عمر لا يمكن تعويضه؛ لذا ليس بمقدور أبو ريناس أن يستعيد ما جرى بهذه السهولة.”

في أواخر آذار/مارس 2018، قرر ابنهما، ريناس، العودة إلى قريته رفقة بعض أقاربه، بعدما سمع أن فصائل المعارضة الإسلامية التي سيطرت حديثاً على عفرين، قد سمحت للمدنيين بالعودة، لكنه قُتل مع أحد أبناء خاله، جراء انفجار لغم، بعد وصولهما إلى القرية.

الحادثة تلك، دفعت بأبي ريناس وأمه للعودة سريعاً إلى قريتهما، دون الالتفات إلى ما تناهى إلى مسامعهما من سمعة سيئة لفصائل المعارضة السورية، وبعد دفنهما للجثتين، كان عليهما نصب عزاء في قرية خاوية على عروشها.

هناك، أدرك المسنان سريعاً أن عليهما مغادرة عفرين، ذلك أن الفصائل لم تترك شيئاً من منازل القرية دون نهبه، بما فيه منزلهما ومنازل ابنائهما الستة، وأثناء محاولتهما البحث عن مخرج ما، حدث ما لم يكن في الحسبان. تقول أم ريناس في هذا الصدد:

“داهمت منزلنا سيارة (بيك آب) من نوع تويوتا، كان يستقلها عناصر بثياب عسكرية. اعتقلوا أبو ريناس وقالوا سنعيده بعد نصف ساعة، بعدها عادوا وأخذوا سيارتنا، التي قدِمنا بها إلى عفرين، ولم يطلقوا سراحه إلا بعد مرور12 يوماً، ودفعنا فدية، بلغت خمسة آلاف دولار أمريكي”.

“كفار وخنازير”

تستحضر ذاكرة أبو ريناس تفاصيل من حادثة اعتقاله، بتهمة الانتماء لحزب العمال الكردستاني – PKK، مشيراً إلى أن خاطفيه، كانوا يتناوبون على تهديده وإهانة دينه بالقول: “أنت من الب ك ك … الايزيديون كفار وخنازير”.

وتتقاطع إفادات كثيرين من ضحايا الانتهاكات في عفرين حول استخدام فصائل المعارضة السورية لتهمة الانتماء لـ”حزب العمال الكردستاني” كذريعة لاعتقال وتعذيب السكان، إضافة إلى تكفيرهم للايزيديين والاستيلاء على ممتلكاتهم ومنعهم من العودة إلى منازلهم.

ويقول أبو ريناس إن مسلحي المعارضة، كانوا يستخدمون الكابل وأخمص البارودة في ضربه، ما خلف كدمات على ظهره، وتهتكاً في كعب قدمه اليسرى، وخلال اعتقاله، أصيب بالتهاب قصبات حاد، ما يزال يتعالج منه حتى الآن.

ويتذكر النازح السبعيني أيضاً، كيف أن المسلحين، دأبوا على تعذيبه لأربعة أيام، حتى يرضخ لمطلبهم، ويدفع فدية مالية، مقابل الإفراج عنه.

ويُحمل أبو ريناس قيادياً من فصيل السلطان مراد،  كان يعرف بـ”أبو مريم الحسكاوي”، المسؤولية عن اختطافه وتعذيبه، حيث يقول:

“رأيت أبو مريم ذات يوم وهو يتقدم مجموعة عناصر، وبدا أنه المسؤول عنهم، ولم أكن أعرفه قبل ذلك، لكنني سمعت أحدهم، ذات مرة، يناديه باسمه، وهو يرد عليه”.

ويستشهد المسن الايزيدي، على حادثة الاعتقال، بأسماء ثلاثة من أقاربه، ممن هاجروا لاحقاً إلى ألمانيا، وكانوا حينها يتولون التواصل مع “الحسكاوي” للإفراج عنه.

بعد إطلاق سراحه، كان على أبو ريناس وزوجته الاستعانة بمهربين لمغادرة عفرين، لكن دون أن يتمكنا من السؤال عن باقي ممتلكاتهما، التي علما لاحقاً، أن عدة فصائل استولت عليها.

“نمط حياة”

تقدر إحصاءات عدد أشجار الزيتون في عفرين بنحو 14 مليون شجرة، فيما يذهب نازحون إلى أن المنطقة تضم أشجار معمرة، كما أناس معمرين.

ويقول النازح ولات زردشت (59 عاماً)، إن ارتفاع معدلات الأعمار في عفرين مرتبط بنمط حياة سائد، تلعب فيه الطبيعة دورها، إلى جانب ثقافة ترفع من قيمة العمل في الأرض والعناية بأشجار الزيتون.

ويشير النازح المقيم حالياً في مدينة القحطانية/تربسبيه، شمال شرق سوريا، إلى أن نسبة كبيرة من فئة كبار السن، نزحت مع عوائلها بعد الهجوم التركي إلى مناطق أكثر أمناً، فيما بقيت أعداد غير قليلة، على أمل أن يساعد وجودهم في منع الفصائل من الاستيلاء على ممتلكات عائلاتهم.

ويتحدر ولات من قرية “بافليون” الايزيدية، التابعة لناحية شران، التي استولى فصيل “الجبهة الشامية” عليها بشكل كامل ومنع سكانها من العودة، فيما جرى توطين نازحين سوريين من مناطق أخرى مع عائلات عناصر الفصيل في منازل القرية.

وقد خسر ولات في “بافليون” منزله وبساتين كانت تضم أكثر من 3500 شجرة زيتون مع مئات الأشجار المثمرة، فضلاً عن منزل في حي الأشرفية بمدينة عفرين، انتهى به الأمر، كسكن لعائلات عناصر من فصيل الشرطة العسكرية. ويتذكر ولات أنه فقد بعد عامين ونصف من النزوح، والديه المسنين، بفارق عشرين يوماً، ويقول:

“صحيح أن والدي كان عمره 85  عاماً ومصاباً بالسرطان، لكنه لو بقي في عفرين لربما كان سيعيش عشر سنوات أخرى”.

ويؤكد النازح أن ثلاثة من أخواله المسنين ممن نزحوا من قراهم إلى مناطق الشهباء، توفوا تبعاً خلال العام الفائت، جراء الكرب الذي أصابهم، نتيجة البعد عن قراهم التي كبروا فيها وقضوا أعمارهم بين بساتينها.

في الجانب الآخر، سجلت خلال السنوات الماضية، عشرات حوادث الاعتداء على مسنين في قرى عفرين من جانب وسائل إعلام ومنظمات حقوقية، وكانت تنتهي، إما بإصابات بليغة أو بالوفاة، لكنها غالباً ما كانت تسجل ضد مجهولين.

“حنين”

بعد مرور ست سنوات، ما تزال مشاعر الشوق والحنين، تتأججُ لدى أبو ريناس وزوجته، كلما هما بالحديث عن عفرين؛ فهما كان يخططان، قبل الهجوم التركي، للتقاعد، بعدما أوصلا أبنائهما، “إلى بر الأمان”.

وتقول أم ريناس في حسرة:

“كان لكل واحد من أبنائي بيت مستقل وعمل، عدا ما امتلكه والدهم من أراضٍ و منازل. لكننا لا نملك الآن، ثمن دواء لوالدهم الذي لم يعرف المرض، إلا بعد النزوح من عفرين”.